نادرة هي اللغات التي تخصص للمثنى صيغًا خاصة في تراكيبها ، وخاصة في الأفعال .
وقد جعلت العربية الضمير – الألف مشتركًا للمذكر والمؤنث ، ففي قولنا ( اِذهبا ) فإننا نوجه الأمر للاثنين وكذلك للاثنتـين ، بالإضافة إلى أن كلا من الضميرين – ( هما ) و (أنتما ) مشتركان ، ويلاحظ أن الألف هي دلالة التثنية في الضمائر [1] . ويظل هذا الاشتراك كذلك في المضارع والماضي مع الحفاظ على علامة التأنيث - التاء - للمؤنث ، فهما تذهبان وقد نجحتـا .
ولما أن كانت اللهجة المحكية قد ألغت هذه الصيغة واعتبرت الاثنين جماعة ، فمحمد وأحمد "سافروا "، و " سألتهم " : " تعبتو ؟ "... وأنتم ( للاثنين ) : تفضلوا ! فإن هذا التأثير أخذ يتسرب للفصيحة في السرد والحوار في روايات مختلفة ، وكذلك في ما اصطلح عليه " لغة المثقفين " . وهي – من نافلة القول - لا تتوجه للمفرد بأمر المثنى - على غرار ما ورد في نصوص عربية قديمة ، كأن نخاطب رجلاً ونقول له : اسمعا ! وهذه المسألة هي من الغرابة بمكان ، لذا ارتأيت أن تكون هي – بالذات - موضوع الدراسة الذي أتناوله .
* * *
من الظواهر التي لا نجد لها تفسيرًا لغويًا- هذه الظاهرة التي يؤمر فيها الواحد بأمر الاثنين ، كقول الحجاج : " يا حرَسيّ ! اضرب رأسه ! "[2] ، وثـَم استشهاد شعري يتردد في هذا الباب ، وهو
لسويد بن كراع العكلي :
فإن تزجراني يا ابن عفان أزدجر وإن تتركاني أحم عرضًا ممنـّعـا[3]
يقول ابن سلام : " وقوله تزجراني ، وتتركاني ، وإنما يريد واحدًا ، وقد تفعل هذا العرب ...."[4]
فهل هذا الأسلوب جاء لتحسين الكلام من جهة المعنى ، أو أنه جاء لتحسينه من ناحية اللفظ ؟
هل هو مجرد جنوح عن الأصل ، أو بلغة النقاد المحدثين ( اِنزياح ) أو ( انحراف ) ؟[5]
هل الألف هي منقلبة عن نون التوكيد الخفيفة – كما ذهب بعضهم في شرح " قفا نبك .. ) [6]؟
وقبل أن ندخل الموضوع أؤكد أن هناك من يرى أن الخطاب لاثنين ، وليس لواحد ، وفي كل نموذج أو مثال سأورده ثمة أكثر من تفسير ، ولكن همنا هنا أن نقف عند هذا الرأي السائد لدى كثير من أهل اللغة ، وهو أن الخطاب جاء لواحد فقط ، ويدل على ذلك السياق ، فبعد ( قفا نبك ... ) ورد بيت آخر في المعلقة يبدأ بخطاب ( أصاح ترى برقًا أريك وميضه .... ) بدليل أن المخاطب هو واحد .
ورد في العقد الفريد :" وقال أهل التفسير في قول الله عز وجل – ( ألقيا في جهنم كل كفّار عنيد )
إنه إنما أراد واحدًا فثناه ، وكذلك قول معاوية للجلواز الذي وكّله برَوح بن زنباع لما اعتذر إليه رَوح واستعطفه : خليا عنه ! " [7].
ويستعرض البغدادي في مجمل حديثه عن ( قفا نبك ) أن فيها أقوالا ، يذكر منها : " أحدها لأكثر أهل اللغة أنه خطاب لرفيق واحد ، قالوا لأن العرب تخاطب الواحد بخطاب الاثنين ، قال الله تعالى مخاطبًا لمالك : ( ألقيا في جهنم ...) [8].........والعلة فيه أن أقل أعوان الرجل في إبله وماله اثنان .... فجرى كلام الرجل على ما ألف من خطابه لصاحبيه " .[9]
وثمة قول آخر أورده البغدادي على أنه للمبرد إذ " قال : التثنية تأكيد الفعل ، والأصل ( قف قف )
، فلما كان الفعل لا يثنى ثُـنّي ضميره " .
ولا يغفل البغدادي عن الرأي الذي يرى أن خطاب المثنى هو للمثنى حقيقة ، ويقول إنه رأي الزجّاج .
ذكرت آنفًا ما قاله العقد الفريد عن أهل التفسير في مجرى كلامهم عن الآية { ألقيا في جهنم ..} فهذا القرطبي يستشهد بما قاله الخليل والأخفش – " إن هذا كلام العرب الفصيح أن تخاطب الواحد بلفظ الاثنين ، فتقول ": " ويلك ارحلاها وازجراها ، وخذاه وأطلقاه للواحد ، وقال الفراء : تقول للواحد قوما عني "[10]
ونحن نلحظ رأي المفسر – القرطبي الموافق ضمنًا لهذه الظاهرة اللغوية - من خلال وصفه ذلك –معتمدًا على الخليل والأخفش بالفصيح ( وهو بذلك يرى ما رآه ابن جني[11] من أن ذلك فصيح ، وما ارتآه البغدادي بأنه لأكثر أهل اللغة ) ، و نلحظ هذه " الموافقة " من خلال استطراده في تقديم الأمثلة .
ثم أن أسلوب المبالغة قد يكون في اللغة متمثلا باستخدام صور التثنية أو الجمع ، فابن سلام الجمحي ينبهنا إلى نماذج وردت في الشعر القديم ، يقول : " وقد تفعل هذا العرب " ، ويستشهد بأبيات فيها صيغة المثنى للدلالة على المفرد - " قال الفرزدق :
عشية سال المِربدان كلاهما عجاجةَ موت بالسيوف الصوارم
.......................
وقال أبو ذؤيب :
وحتى يؤوب القارظان كلاهما ويُنشر في القتلى كليبٌ لوائل
وهو رجل واحد من عنـزة ، ذهب ( أن ) يجتني القَرَظ ، فلم يثبُت أنه رجع .
............وقال العجاج : " لا تحسبنّ الخندقيـن والحَفَر " وهو خندق واحد " [12]
ونحن لا نستبعد ذلك ، إذ ورد في الذكر الحكيم { رب المشرقين ورب المغربين } ( الرحمن 17 ) ، كما ورد في آية أخرى { رب السماوات وما بيـنهما ورب المشارق } ( الصافات 5 ) ، وليس هناك أكثر من مشرق واحد ، إذا أردنا تعميم الدلالة .
، ولكن المفسرين يجعلون كل درجة في طلوع الشمس وكأنه مشرق واحد ، فاختلاف مطالع الشمس لديهم هو مشارق ، وكذلك جعلوا المشرقين أقصى مطلع تطلع منه الشمس في الأيام الطوال ، وأقصر يوم في القصار [13] . وهذا بالطبع لا ينفي أن يكون هناك مشرق واحد بدليل الآيات الواردة في ستة مواقع أخرى [14]
إن مثل هذه الأساليب اللغوية التي تعدل عن الأصل المتعارف عليه من شأنها أن تثير التساؤل ، وتترك فسحة لمعاودة النص واستنباط معنى قد تؤديه صورة اللفظة الجديدة .
وعلى ذلك ، فقد اعتبر ابن جني هذا " الانـزياح " اللغوي أمرًا عاديًا وهو " ليس بقاطع دليل على ضعف لغته ، ولا قصوره عن اختياره الوجه الناطق بفصاحته "[15]
* * *
إزاء ما ذكرنا أعلاه من ضروب الاجتهاد فإن صورة التأكيد تظل هي الراجحة[16] ، فكأن الواحد هو اثنان، ونحن نلحظ ذلك أكثر ما نلحظ في خطاب المفرد الذي يكون له مساعد ، أو في موقف يكون المفرد فيه في موقف تأثيري { ألقيا في جهنم ...} قفا نبك ، اضربا عنقه ! ، خليا عنه ! ، فإن تزجراني يا ابن عفان ... ... إلخ ) .
ثم إن عدم المطابقة اللغوية كان لكسر آلية ما هو متعارف عليه ، فنحن نرى آية " فمن ربكما يا موسى " ( طه 49 ) فقد سأل " من ربكما " وخاطب واحدًا - موسى ( وكأن هارون مفهوم ضمنًا أنه معه ) أو قوله تعالى " قال قد أجيبت دعوتكما ... " ( يونس 89 ) والخطاب مرة أخرى لموسى وحده ؛ ومثل ذلك آية " ... فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى " ( طه 16 ) - بدلا من ( فتشقيان ) .
إنها أساليب تحفز على تدبرها والنظر فيها ، وقد تضاف هي و الأضداد والمشترك والعدول وغيرها إلى مجمل المثير للنظر ، وهنا لا يكون تحديد الدلالة - عامة - هدفًا ، بل إن هذا منوط بمراجعة النص وفهم السياق .
المصادر
القرآن الكريم
ابن جني : الخصائـص ، ج 2 ، (تحقيق محمد علي النجار) ، دار الهدى ، بيروت – 1952 .
ابن عبد ربه ، أحمد : العقد الفريد ( ج 5 ) ، دار الكتاب العربي ، بيروت – 1965 .
ابن فارس : الصاحبي ( تحقيق مصطفى الشومي ) ، مؤسسة بدران ، بيروت – 1964 .
ابن قتيبة : الشعر والشعراء ، ج 2 ، ( تحقيق أحمد محمد شاكر ) ، دار المعارف بمصر – 1967 .
البغدادي ، عبد القادر : خزانة الأدب ، ج 6 ، 11 ، ( تحقيق عبد السلام هارون ) ، مكتبة الخانجي ،
القاهرة – 1983 .
التبريزي ، الخطيب : شرح القصائد العشر ( تحقيق فخر الدين قباوة ) ، دار الآفاق ، بيروت –
1980.
الجمحي ، ابن سلام : طبقات فحول الشعراء ، ج 1 ( تحقيق محمود شاكر ) ، دار المدني ، د . ت.
الزركشي ، برهان الدين : البرهان في علوم القرآن ، ج2 ، دار التراث ، القاهرة ، د . ت .
الزوزني : شرح المعلقات السبع ، دار الجيل ، بيروت – د . ت .
القرطبي : الجامع لأحكام القرآن ، ج 15 ، ج 17 ، دار الكتب العلمية ، بيروت – 2000 .
[1] - مما يسترعي الانتباه أننا نجد مقابل ( هم ) للجمع المذكر ( هما ) للتثنية ؛ ومقابل ( أنتم ) نجد ( أنتما ) للتثنية أي بزيادة ألف ، ولكنا لا نجد في ضمير المتكلم ( نحن ) ما يقابلها بحيث يخص المثنى – كأن نقول ( نحنما ) ، ولعل ذلك يعود إلى اعتبار المتكلمَـينِ الاثنين جماعة بسبب الفخر ومتطلباته التي تدع العربي المتكلم وكأنه جماعة ، فكم بالحري إذا كان هناك من يقف معه .
[2] - -ابن فارس : الصاحبي ، ص 219 قد ذكر العبارة محقق الكتاب مصطفى الشومي نقلا عن السبكي في كتابه عروس الأفراح على شرح تلخيص المفتاح . وقد وردت الجملة كذلك على أنها قول لأحد الفصحاء ( خزانة الأدب ، ج 6 ، ص 148 )
[3] - الجمحي ، ابن سلام : طبقات فحول الشعراء ، ج 1 ، ص 178 ، وقد ورد البيت في الصاحبي ( م . س ) بلفظة ( أنزجر ) بدلا من ( أزدجر ) ولفظة ( تدعاني ) بدل ( تتركاني ) . كما ورد في الشعر والشعراء ( أنزجر ) ، ج 2 ، ص 635 .
أما الشاعر فهو أموي كان قد هجا بني عبد الله بن دارم ، فاستعدوا عليه سعيد بن عثمان بن عفان ، فطلبه ، فهرب منه .
[4]- نحو : خليلي قوما في عطالـة فانظرا أنارًا ترى من ذي أبانينَ أم برقا ، ونلاحظ قول الشاعر ( ترى ) بعد قوله ( خليلي َّ
وفي الهامش الذي شرح فيه محمود محمد شاكر ( ص 178 ) يقول " إن الأنباري في شرح السبع الطوال يقول : فقال خليليّ ، فثنى ، ثم قال : أنارًا ، فوحد "
5 - أورد الزركشي في البرهان في علوم القرآن ، ج 2 نحو أربعين وجهًا من "وجوه المخاطبات والخطاب في القرآن " وذكر من بينها خطاب الاثنين بلفظ الواحد ، وخطاب الجمع بعد الواحد ، وخطاب الواحد والجمع بلفظ الاثنين ( ص 239 ) ، وقال ابن فارس في أكثر من موضع – وهو يتناول ظواهر لغوية خارجة عن المألوف اللغوي : " من سنن العرب أن تفعل ذلك "
( الصاحبي ، ص 211 – 213 ... ..).
[6] - يقول التبريزي : " أراد " قفنْ " بالنون ، فأبدل الألف من النون ، وأجرى الوصل مجرى الوقف . وأكثر ما يكون هذا في الوقف " ، انظر : شرح القصائد العشر ، ص 20 وانظر كذلك - البغدادي :خزانة الأدب ، ج 11 ، ص 18 .
- ابن عبد ربه : العقد الفريد ، ج 5 ، ص 388 .[7]
- سورة ق آية 24 . ويورد كذلك بيت شعر آخر هو لمضرّس بن ربعي الفقعسي :
وقلت لصاحبي لا تحبسانا .........( خزانة الأدب ، ج 11 ، ص 17 )[8]
- ن . م ، ويذكر البغدادي رأي ابن النحاس " أن هذا شيء ينكره حذاق البصريين ، لأنه إذا خاطب الواحد مخاطبة الاثنين وقع [9]
الإشكال " ، ويضيف البغدادي نوعًا من الاعتراض ، فيعقب على قول ابن النحاس : " وفيه نظر ، فإن القرينة تدفع اللبس " .
[10] - القرطبي : الجامع لأحكام القرآن ، ص 12 ، ويسوق كذلك رأي المازني المبرد أنها تثنية على التوكيد ، ويضيف القرطبي " ويجوز أن يكون " ألقيا " تثنية على خطاب الحقيقة من قول الله تعالى يخاطب الملكين . وقيل : هو مخاطبة للسائق والحافظ " ويعني بذلك الآية " وجاءت كل نفس ومعها سائق وشهيد " ( ق ، 21 ) – أي الآية التي تسبق آية " ألقيا .... " بثلاث آيات .
- يقول ابن جني : " إن العربي الفصيح إذا قوي طبعه لم يبال أن يقع الشذوذ في شيء من كلامه " ، الخصائص ج 2 ، ص 392 .[11]
- الجمحي ، طبقات فحول الشعراء ، ج 1 ، ص 180 .[12]
- انظر مثلا – القرطبي : الجامع لأحكام القرآن ، ج 15 ، ص 44 .[13]
- انظر " ولله المشرق والمغرب ... " ، البقرة 115 ، 142 ، 177 ، 258 ، الشعراء 28 ، المزمل 9 .[14]
- ابن جني : الخصائص ، ج 2 ، ص 392 .[15]
- كأنه توكيد لفظي ، فبدلا من قوله " ألقِ ألقِ " مرتين قال ألقيا ( وكأن ذلك مثنى ) وعلى غرار ذلك فسرت الآية " ...قال رب أرجعون " ( المؤمنون 99 ) أي أرجعني ، وبدلا من تكرار ذلك ثلاث مرات " جعلت الواو علمًا مشعرًا بأن المعنى تكرير اللفظ مرارًا "
( الزوزني : شرح المعلقات السبع ، ص 7 . )[16]